فصل: ذكر غارة الحارث بن نمر التنوخي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر خبر الخريت بن راشد وبني ناجية:

قيل: وفي هذه السنة أظهر الخريت بن راشد الناجي الخلاف على علي، فجاء إلى أمير المؤمنين وكان معه ثلاثمائة من بني ناجية خرجوا مع علي من البصرة فشهدوا معه الجمل وصفين وأقاموا معه بالكوفة إلى هذا الوقت، فحضر عند علي في ثلاثين راكباً فقال له: يا علي والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك، وإني غداً مفارق لك، وذلك بعد تحكيم الحكمين. فقال له: ثكلتك أمك! إذاً تعصي ربك وتنكث عهدك ولا تضر إلا نفسك! خبرني لم تفعل ذلك؟ فقال: لأنك حكمت وضعفت عن الحق، وركنت إلى القوم الذين ظلموا، فأنا عليك زارٍ وعليهم ناقم، ولكم جميعاً مباين. فقال له علي: هلم أدارسك الكتاب وأناظرك في السنن وأفاتحك أموراً أنا أعلم بها منك فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر، قال: فإني عائدٌ إليك. قال: لا يستهوينك الشيطان، ولا يستخفنك الجهال، والله لئن استرشدتني وقبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد.
فخرج من عنده منصرفاً إلى أهله، وسار من ليلته هو وأصحابه. فلما سمع بمسيرهم علي قال: بعداً لهم كما بعدت ثمود! إن الشيطان اليوم استهواهم وأضلهم وهو غداً متبرىء منهم. فقال له زياد بن خصفة البكري: يا أمير المؤمنين، إنه لم يعظم علينا فقدهم فتأسى عليهم، إنهم قل ما يزيدون في عددنا لو أقاموا، ولقل ما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعةً كثيرة ممن يقدمون عليك من أهل طاعتك، فأذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك. فقال: أتدري أين توجهوا؟ قال: لا، ولكني أسأل وأتبع الأثر. فقال له: اخرج، رحمك الله، وانزل دير أبي موسى وأقم حتى يأتيك أمري، فإن كانوا ظاهرين فإن عمالي سيكتبون بخبرهم.
فخرج زياد فأتى داره وجمع أصحابه من بكر بن وائل وأعلمهم الخبر، فسار معه مائة وثلاثون رجلاً، فقال: حسبي. ثم سار حتى أتى دير أبي موسى فنزله يوماً ينتظر أمر علي، وأتى علياً كتاب من قرظة بن كعب الأنصاري يخبره أنهم توجهوا نحو نفر، وأنهم قتلوا رجلاً من الدهاقين كان أسلم. فأرسل علي إلى زياد يأمره باتباعهم ويخبره خبرهم وأنهم قتلوا رجلاً مسلماً ويأمره بردهم إليه، فإن أبوا يناجزهم، وسير الكتاب مع عبد الله بن والٍ، فاستأذنه عبد الله في المسير مع زياد، فأذن له، وقال له: إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق وأنصاري على القوم الظالمين. قال ابن وال: فوالله ما أحب أن لي بمقالته تلك حمر النعم.
وسار بكتاب علي إلى زياد، وساروا حتى أتوا نفر، فقيل إنهم ساروا نحو جرجرايا، فتبعوا آثارهم حتى أدركوهم بالمذار وهم نزول قد أقاموا يومهم وليلتهم واستراحوا، فأتاهم زياد وقد تقطع أصحابه وتعبوا، فلما رأوهم ركبوا خيولهم، وقال لهم الخريت: أخبروني ما تريدون. فقال له زياد، وكان مجرباً رفيقاً: قد ترى ما بنا من التعب، والذي جئناك له لا يصلحه الكلام علانية ولكن ننزل ثم نخلو جميعأً فتذاكر أمرنا، فإن رأيت ما جئناك به حظاً لنفسك قبلته، وإن رأينا فيما نسمع منك أمراً نرجو فيه العافية لم نرده عليك. قال: فانزل. فنزل زياد وأصحابه على ماء هناك وأكلوا شيئاً وعلقوا على دوابهم، ووقف زياد في خمسة فوارس بين أصحابه وبين القوم، وكانوا قد نزلوا أيضاً، وقال زياد لأصحابه: إن عدتنا كعدتهم، وأرى أمرنا يصير إلى القتال، فلا تكونوا أعجز الفريقين.
وخرج زياد إلى الخريت فسمعهم يقولون: جاءنا القوم وهم كالون تعبون، فتركناهم حتى استراحوا، هذا والله سوء الرأي. فدعاه زياد وقال له: ما الذي نقمت على أمير المؤمنين وعلينا حتى فارقتنا؟ فقال: لم أرض صاحبكم إماماً ولا سيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل وأكون مع من يدعو إلى الشورى، فقال له زياد: وهل يجتمع الناس على رجل يداني صاحبك الذي فارقته علماً بالله وسنته وكتابه مع قرابته من الرسول، صلى الله عليه وسلم، وسابقته في الإسلام؟ فقال له: ذلك لا أقول لك. فقال له زياد: ففيم قتلت ذلك الرجل المسلم؟ فقال له: ما أنا قتلته وإنما قتله طائفة من أصحابي. قال: فادفعهم إلينا. قال: ما لي إلى ذلك سبيلز فدعا زيادٌ أصحابه ودعا الخريت أصحابه، فاقتتلوا قتالاً شديداً تطاعنوا بالرماح حتى لم يبق رمح، وتضاربوا بالسيوف حتى انحنت، وعقرت عامة خيولهم، وكثرت الجراحة فيهم، وقتل من أصحاب زياد رجلان ومن أولئك خمسة وجاء الليل فحجز بينهما، وقد كره بعضهم بعضاً وجرح زياد، فسار الخريت من الليل وسار زياد إلى البصرة، وأتاهم خبر الخريت أنه أتى الأهواز فنزل بجانب منها وتلاحق به ناسٌ من أصحابهم فصاروا نحو مائتين، فكتب زياد إلى علي يخبرهم وأنه مقيم يداوي الجرحى وينتظر أمره.
فلما قرأ علي كتابه قام إليه معقل بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كان ينبغي أن يكون مع من يطلب هؤلاء مكان كل واحد منهم عشرة، فإذا لحقوهم استأصلوهم وقطعوا دابرهم، فأما أن يلقاهم عددهم فلعمري ليصبرن لهم فإن العدة تصبر للعدة. فقال: تجهز يا معقل إليهم، وندب معه ألفين من أهل الكوفة، منهم يزيد بن المعقل الأسدي. وكتب علي إلى ابن عباس يأمره أن يبعث من أهل البصرة رجلاً شجاعاً معروفاً بالصلاح في ألفي رجل إلى معقل وهو أمير أصحابه حتى يأتي معقلاً، فإذا لقيه كان معقل الأمير. وكتب إلى زياد ابن خصفة يشكره ويأمره بالعود.
واجتمع على الخريت الناجي علوج من أهل الأهواز كثيرٌ أرادوا كسر الخراج ولصوصٌ وطائفةٌ أخرى من العرب ترى رأيه، وطمع أهل الخراج في كسره فكسروه، وأخرجوا سهل بن حنيف من فارس، وكان عاملاً لعلي عليها، في قول من يزعم أنه لم يمت سنة سبع وثلاثين. فقال ابن عباس لعلي: أنا أكفيك فارس بزياد، يعني ابن أبيه، فأمره بإرساله إليها وتعجيل تسييره، فأرسل زياداً إليها في جمع كثير، فوطىء بلاد فارس، فأدوا الخراج واستقاموا، وسار معقل بن قيس، ووصاه علي فقال له: اتق الله ما استطعت، ولا تبغ على أهل القبلة، ولا تظلم أهل الذمة، ولا تتكبر فإن الله لا يحب المتكبرين.
فقدم معقل الأهواز ينتظر مدد البصرة، فأبطأ عليه فسار عن الأهواز يطلب الخريت، فلم يسر إلا يوماً حتى أدركه المدد مع خالد بن معدان الطائي، فساروا جميعاً، فلحقوهم قريب جبل من جبال رامهرمز، فصف معقل أصحابه، فجعل على ميمنته يزيد بن المعقل، وعلى ميسرته منجاب بن راشد الضبي من أهل البصرة، وصف الخريت أصحابه فجعل من معه من العرب ميمنةً، ومن معه من أهل البلد والعلوج ميسرة، ومعهم الأكراد، وحرض كل واحد منهما أصحابه، وحرك معقل رأسه مرتين ثم حمل في الثالثة، فصبروا له ساعة ثم انهزموا، فقتل أصحاب معقل منهم سبعين رجلاً من بني ناجية ومن معهم من العرب، وقتلوا نحواً من ثلاثمائة من العلوج والأكراد، وانهزم الخريت بن راشد فلحق بأسياف البحر، وبها جماعةٌ كثيرة من قومه، فما زال يسير فيهم ويدعوهم إلى خلاف علي ويخبرهم أن الهدى في حربه حتى اتبعه منهم ناس كثير.
وأقام معقل بأرض الأهواز وكتب إلى علي بالفتح، فقرأ علي الكتاب على أصحابه واستشارهم، فقالوا كلهم: نرى أن تأمر معقلاً أن يتبع آثار الفاسق حتى يقتله أو ينفيه فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس. فكتب إلى معقل يثني عليه وعلى من معه ويأمره باتباعه وقتله أو نفيه. فسأل معقل عنه، فأخبر بمكانه بالأسياف وأنه قد رد قومه عن طاعة علي وأفسد من عنده من عبد القيس وسائر العرب، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين وذلك العام. فسار إليهم معقل فأخذ على فارس وانتهى إلى أسياف البحر.
فلما سمع الخريت بمسيره قال لمن معه من الخوارج: أنا على رأيكم وإن علياً لم ينبغ له أن يحكم. وقال للآخرين من أصحابه: إن علياً حكم ورضي فخلعه حكمه الذي ارتضاه، وهذا كان الرأي الذي خرج عليه من الكوفة وإليه كان يذهب. وقال سراً للعثمانية: إنا والله على رأيكم، قد والله قتل عثمان مظلوماً. فأرضى كل صنف منهم. وقال لمن منع الصدقة: شدوا أيديكم على صدقاتكم وصلوا بها أرحامكم. وكان فيها نصارى كثير قد أسلموا، فلما اختلف الناس قالوا: والله لديننا الذي خرجنا منه خير من دين هؤلاء، لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء. فقال لهم الخريت: ويحكم! لا ينجيكم من القتل إلا قتل هؤلاء القوم والصبر فإن حكمهم فيمن أسلم ثم ارتد أن يقتل ولا يقبلون منه توبةً ولا عذراً. فخدعهم جميعهم. وأتاه من كان من بني ناجية وغيرهم خلق كثير. فلما انتهى معقل إليه نصب راية أمان وقال: من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت وأصحابه الذين حاربونا أول مرة. فتفرق عن الخريت جل من كان معه من غير قومه، وعبأ معقل أصحابه وزحف نحو الخريت ومعه قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانع الزكاة منهم. فقال الخريت لمن معه: قاتلوا عن حريمكم وأولادكم، فوالله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم وليسبنكم. فقال له رجل من قومه: هذا والله ما جرته علينا يدك ولسانك. فقال: سبق السيف العذل.
وسار معقل في الناس يحرضهم ويقول: أيها الناسش ما ترون أفضل مما سبق لكم من الأجر العظيم؟ إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة، وارتدوا عن الإسلام، ونكثوا البيعة ظلماًن فأشهد لمن قتل منكم بالجنة، ومن بقي منكم فإن الله مقر عينه بالفتح. ثم حمل معقل وجميع من معه فقاتلوا قتالاً شديداً وصبروا له، ثم إن النعمان بن صبهان الراسبي بصر بالخريت فحمل عليه فطعنه فصرع عن دابته، ثم اختلفا ضربتين فقتله النعمان وقتل معه في المعركة سبعون ومائة رجل وذهب الباقون يميناً وشمالاً، وسبى معقل من أدرك من حريمهم وذرياتهم، وأخذ رجالاً كثيراً، فأما من كان مسلماً فخلاه وأخذ بيعته وترك له عياله، وأما من كان ارتد فعرض عليهم الإسلام فرجعوا فخلى سبيلهم وسبيل عيالهم، إلا شيخاً كبيراً نصرانياً منهم يقال له الرماحسن لم يسلم فقتله، وجمع من منع الصدقة وأخذ منهم صدقة عامين، وأما النصارى وعيالهم فاحتملهم مقبلاً بهم، وأقبل المسلمون معهم يشيعونهم، فلما ودعوهم بكى الرجال والنساء بعضهم إلى بعض حتى رحمهم الناس.
وكتب معقل إلى علي بالفتح، ثم أقبل بهم حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني، وهو عامل علي على أردشير خره، وهم خمسمائة إنسان، فبكى النساء والصبيان وصاح الرجال: يا أبا الفضل! يا حامي الرجال ومأوى المعضب وفكاك العناة امنن علينا واشترنا وأعتقنا! فقال مصقلة: أقسم بالله لأتصدقن عليكم! إن الله يجزي المتصدقين. فبلغ قوله معقلاً فقال: والله لو أعلم أنه قالها توجعاً عليهم وإزراء علينا لضربت عنقه ولو كان في ذلك تفاني تميم وبكر. ثم إن مصقلة اشتراهم من معقل بخمسمائة ألف، فقال له معقل: عجل المال إلى أمير المؤمنين. فقال: أنا أبعث الآن ببعضه ثم كذلك حتى لا يبقى منه شيء.
وأقبل معقل إلى علي فأخبره بما كان منه، فاستحسنه، وبلغ علياً أن مصقلة أعتق الأسرى ولم يسألهم أن يعينوه بشيء، فقال: ما أظن مصقلة إلا قد تحمل حمالة سترونه عن قريب منها مبلداً. وكتب إليه يطلب منه المال أو يحضر عنده، فحضر عنده وحمل من المال مائتي ألف.
قال ذهل بن الحارث: فاستدعاني ليلةً فطعمنا ثم قال: إن أمير المؤمنين يسألني هذا المال ولا أقدر عليه. فقلت: والله لو شئت ما مضت جمعة حتى تحمله. فقال: والله ما كنت لأحملها قومي، أما والله لو كان ابن هند ما طالبني بها ولو كان ابن عفان لوهبها لي، ألم تره أطعم الأشعث بن قيس كل سنة من خراج أذربيجان مائة ألف؟ قال: فقلت: إن هذا لا يرى ذلك الرأي ولا يترك منها شيئاً. فهرب مصقلة من ليلته فلحق بمعاوية، وبلغ علياً ذلك فقال: ما له، ترحه الله، فعل فعل السيد وفر فرار العبد وخان خيانة الفاجر! أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه، فإن وجدنا له شيئاً أخذناه وإلا تركناه.
ثم سار علي إلى داره فهدمها وأجاز عتق السبي وقال: أعتقهم مبتاعهم وصارت أثمانهم ديناً على معتقهم.
وكان أخوة نعيم بن هبيرة شيعة لعلي، فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب اسمه حلوان يقول له: إن معاوية قد وعدك الإمارة والكرامة فأقبل ساعة يلقاك رسولي، والسلام. فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرحه إلى علي، فقطع يده، فمات، وكتب نعيم إلى مصقلة يقول:
لا ترمين هداك الله معترضاً ** بالظن منك فما بالي وحلوانا

ذاك الحريص على ما نال من طمع ** وهو البعيد فلا يحزنك إن خانا

ماذا أردت إلى إرساله سفهاً ** ترجو سقاط امرىء لم يلف وسنانا

قد كنت في منظرٍ عن ذا ومستمعٍ ** تحمي العراق وتدعى خير شيبانا

حتى تقحمت أمراً كنت تكرهه ** للراكبين له سراً وإعلانا

عرضته لعلي إنه أسدٌ ** يمشي العرضنة من آساد خفانا

لو كنت أديت مال القوم مصطبراً ** للحق أحييت أحيانا وموتانا

لكن لحقت بأهل الشام ملتمساً ** فضل ابن هندٍ وذاك الرأي أشجانا

فاليوم تقرع سن العجز من ندمٍ ** ماذا تقول وقد كان الذي كانا

أصبحت تبغضك الأحياء قاطبةً ** لم يرفع الله بالبغضاء إنسانا

فلما وقع الكتاب إليه علم أنه قد هلك، وأتاه التغلبيون فطلبوا منه دية صاحبهم، فوداه لهم.
وقال بعض الشعراء في بني ناجية:
سما لكم بالخيل قوداً عوابساً ** أخو ثقةٍ ما يبرح الدهر غازيا

فصحبكم في رجله وخيوله ** بضرب ترى منه المدجج هاويا

فأصبحتم من بعد كبرٍ ونخوةٍ ** عبيد العصا لا تمنعون الذراريا

وقال مصقلة بن هبيرة:
لعمري لئن عاب أهل العراق ** علي انتعاش بني ناجيه

لأعظم من عتقهم رقهم ** وكفي بعتقهم ماليه

وزايدت فيهم لإطلاقهم ** وغاليت إن العلى غاليه

.ذكر أمر الخوارج بعد النهروان:

لما قتل أهل النهروان خرج أشرس بن عوف الشيباني على علي بالدسكرة في مائتين ثم سار إلى الأنبار، فوجه إليه علي الأبرش بن حسان في ثلاثمائة فواقعه، فقتل أشرس في ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج هلال بن علفة من تيم الرباب ومعه أخوه مجالد فأتى ماسبذان، فوجه إليه علي معقل بن قيس الرياحي فقتله وقتل أصحابه، وهم أكثر من مائتين، وكان قتلهم في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج الأشهب بن بشر، وقيل الأشعث، وهو من بجيلة، في مائة وثمانين رجلاًن فأتى المعركة التي أصيب فيها هلال وأصحابه فصلى عليهم ودفن من قدر عليه منهم، فوجه إليهم علي جارية بن قدامة السعدي، وقيل حجر ابن عدي، فأقبل إليهم الأشهب، فاقتتلا بجرجرايا من أرض جوخى، فقتل الأشهب وأصحابه في جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج سعيد بن قفل التيمي من تيم الله بن ثعلبة في رجب بالبندنيجين ومعه مائتا رجل فأتى درزنجان، وهي من المدائن على فرسخين، فخرج إليهم سعد بن مسعود فقتلهم في رجب سنة ثمان وثلاثين.
ثم خرج أبو مريم السعدي التميمي فأتى شهرزور، وأكثر من معه من الموالي، وقيل لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم، واجتمع معه مائتا رجل، وقيل أربعمائة، وعاد حتى نزل على خمسة فراسخ من الكوفة، فأرسل إليه علي يدعوه إلى بيعته ودخول الكوفة، فلم يفعل وقال: ليس بيننا غير الحرب. فبعث إليه علي شريح بن هانىء في سبعمائة، فحمل الخوارج على شريح وأصحابه فانكشفوا وبقي شريح في مائتين، فانحاز إلى قرية، فتراجع إليه بعض أصحابه ودخل الباقون الكوفة، فخرج علي بنفسه وقدم بين يديه جارية بن قدامة السعدي، فدعاهم جارية إلى طاعة علي وحذرهم القتل فلم يجيبوا، ولحقهم علي أيضاً فدعاهم فأبوا عليه وعلى أصحابه، فقتلهم أصحاب علي ولم يسلم منهم غير خمسين رجلاً استأمنوا فآمنهم. وكان في الخوارج أربعون رجلاً جرحى، فأمر علي بإدخالهم الكوفة ومداواتهم حتى برأوا. وكان قتلهم في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين، وكانوا من أشجع من قائل من الخوارج، ولجرأتهم قاربوا الكوفة.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس في هذه السنة قثم بن العباس من قبل علي، وكان عامله على مكة، وكان على اليمن عبيد الله بن عباس، وعلى البصرة عبد الله بن عباس، وعلى خراسان خليد بن قرة اليربوعي، وقيل كان ابن أبزى، وأما الشام ومصر فكان بهما معاوية وعماله.
وفي هذه السنة مات صهيب بن سنان، في قول بعضهم، وكان عمره سبعين سنة، ودفن بالبقيع. ثم دخلت:

.سنة تسع وثلاثين:

.ذكر سرايا أهل الشام إلى بلاد أمير المؤمنين:

وفي هذه السنة فرق معاوية جيوشه في العراق في أطراف علي، فوجه النعمان بن بشير في ألف رجل إلى عين التمر وفيها مالك بن كعب مسلحة لعلي في ألف رجل، وكان مالك قد أذن لأصحابه فأتوا الكوفة ولم يبق معه إلا مائة رجل، فلما سمع بالنعمان كتب إلى أمير المؤمنين يخبره ويستمده، فخطب علي الناس وأمرهم بالخروج إليه، فتثاقلوا، وواقع مالكٌ النعمان وجعل جدار القرية في ظهور أصحابه، وكتب مالك إلى مخنف بن سليم يستعينه، وهو قريب منه، واقتتل مالك والنعمان أشد قتال، فوجه مخنف ابنه عبد الرحمن في خمسين رجلاً، فانتهوا إلى مالك وقد كسروا جفون سيوفهم واستقتلوا، فلما رآهم أهل الشام انهزموا عند المساء وظنوا أن لهم مداداً، وتبعهم مالك فقتل منهم ثلاثة نفر.
ولما تثاقل أهل الكوفة عن الخروج إلى مالك صعد علي المنبر فخطبهم ثم قال: يا أهل الكوفة كلما سمعتم بجمع من أهل الشام أظلكم انجحر كل امرىء منكم في بيته وأغلق عليه بابه انجحار الضب في جحره والضبع في وجارها، المغرور من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرار عند النداء ولا إخوان عند النجاء! إنا لله وإنا إليه راجعون! ماذا منيت به منكم؟ عمي لا يبصرون، وبكم لا ينطقون، وصم لا يسمعون! إنا لله وإنا إليه راجعون.
ووجه معاوية في هذه السنة أيضاً سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل وأمره أن يأتي هيت فيقطعها، ثم يأتي الأنبار، والمدائن فيوقع بأهلها. فأتى هيت فلم يجد بها أحداً، ثم أتى الأنبار وفيها مسلحة لعلي تكون خمسمائة رجل وقد تفرقوا ولم يبق منهم إلا مائتا رجل، وكان سبب تفرقهم أنه كان عليهم كميل ابن زياد، فبلغه أن قوماً بقرقيسيا يريدون الغارة على هيت فسار إليهم بغير أمر علي، فأتى أصحاب سفيان وكميل غائبٌ عنها، فأغضب ذلك علياً على كميل، فكتب إليه ينكر ذلك عليه، وطمع سفيان في أصحاب علي لقلتهم فقاتلهم، فصبر أصحاب علي ثم قتل صاحبهم، وهو أشرس بن حسان البكري، وثلاثون رجلاً، واحتملوا ما في الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية، وبلغ الخبر علياً فأرسل في طلبهم فلم يدركوا.
وفيها أيضاً وجه معاوية عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر الفزاري في ألف وسبعمائة رجل إلى تيماء وأمره أن يصدق من مر به من أهل البوادي ويقتل من امتنع، ففعل ذلك، وبلغ مكة والمدينة وفعل ذلك، واجتمع إليه بشرٌ كثيرٌ من قومه، وبلغ ذلك علياً فأرسل المسيب بن نجبة الفزاري في ألفي رجل، فلحق عبد الله بتيماء، فاقتتلوا حتى زالت الشمس قتالاً شديداً، وحمل المسيب على ابن مسعدة فضربه ثلاث ضربات لا يريد قتله ويقول له: النجاء النجاء! فدخل ابن مسعدة وجماعة معه الحصن وهرب الباقون نحو الشام، وانتهب الأعراب إبل الصدقة التي كانت مع ابن مسعدة، وحصره ومن معه ثلاثة أيام، ثم ألقى الحطب في الباب وحرقه، فلما رأوا الهلاك أشرفوا عليه وقالوا: يا مسيب قومك، فرق لهم، وأمر بالنار فأطفئت، وقال لأصحابه: قد جاءتني عيوني فأخبروني أن جنداً قد أتاكم من الشام. فقال له عبد الرحمن ابن شبيب: سرحني في طلبهم، فأبى ذلك عليه، فقال: غششت أمير المؤمنين وداهنت في أمرهم.
وفيها أيضاً وجه معاوية الضحاك بن قيس وأمره أن يمر بأسفل واقصة ويغير على كل من مر به ممن هو في طاعة علي من الأعراب، وأرسل ثلاثة آلاف رجل معه، فسار الناس، وأخذ الأموال ومضى إلى الثعلبية، وقتل وأغار على مسلحة علي، وانتهى إلى القطقطانة. فلما بلغ ذلك علياً أرسل إليه حجر بن عدي في أربعة آلاف وأعطاهم خمسين درهماً خمسين درهماً، فلحق الضحاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقتل من أصحابه رجلان، وحجز بينهما الليل، فهرب الضحاك وأصحابه ورجع حجر ومن معه.
وفي هذه السنة سار معاوية بنفسه حتى شارف دجلة ثم نكص راجعاً.
واختلف فيمن حج بالناس هذه السنة، فقيل: حج بالناس عبيد الله بن عباس من قبل علي، وقيل: بل حج عبد الله أخوه، وذلك باطل، فإن عبد الله بن عباس لم يحج في خلافة علي، وإنما كان على هذه السنة على الحج عبيد الله بن عباس، وبعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي، فاختلف عبيد الله ويزيد بن شجرة واتفقا على أن يحج بالناس شيبة بن عثمان، وقيل: إن الذي حج من جانب علي قثم بن العباس، وكان عمال علي على البلاد من تقدم ذكرهم.

.ذكر مسير يزيد بن شجرة إلى مكة:

وفي هذه السنة دعا معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي، وهو من أصحابه، فقال له: إني أريد أن أوجهك إلى مكة لتقيم للناس الحج وتأخذ لي البيعة بمكة وتنفي عنها عامل علي.
فأجابه إلى ذلك وسار إلى مكة في ثلاثة آلاف فارس وبها قثم بن العباس عامل علي، فلما سمع به قثم خطب أهل مكة وأعلمهم بمسير الشاميين ودعاهم إلى حربهم، فلم يجيبوه بشيء، وأجابه شيبة بن عثمان العبدري بالسمع والطاعة، فعزم قثم على مفارقة مكة واللحاق ببعض شعابها ومكاتبة أمير المؤمنين بالخبر فإن أمده بالجيوش قاتل الشاميين، فنهاه أبو سعيد الخدري عن مفارقة مكة وقال له: أقم فإن رأيت منهم القتال وبك قوة فاعمل برأيك وإلا فالمسير عنها أمامك. فأقام وقدم الشاميون ولم يعرضوا لقتال أحد، وأرسل قثم إلى أمير المؤمنين يخبره، فسير جيشاً فيهم الريان بن ضمرة بن هوذة بن علي الحنفي وأبو الطفيل أول ذي الحجة، وكان قدوم ابن شجرة قبل التروية بيومين، فنادى في الناس: أنتم آمنون إلا من قاتلنا ونازعنا. واستدعى أبا سعيد الخدري وقال له: إني أريد الإلحاد في الحرم ولو شئت لفعلت لما فيه أميركم من الضعف، فقل له يعتزل الصلاة بالناس وأعتزلها أنا ويختار الناس رجلاً يصلي بهم. فقال أبو سعيد لقثم ذلك، فاعتزل الصلاة، واختار الناس شيبة بن عثمان فصلى بهم وحج بهم، فلما قضى الناس حجهم رجع يزيد إلى الشام، وأقبل خيل علي فأخبروا بعود أهل الشام، فتبعوهم، وعليهم معقل بن قيس، فأدروهم وقد رحلوا عن وادي القرى، فظفروا بنفر منهم فأخذوهم أسارى وأخذوا ما معهم ورجعوا بهم إلى أمير المؤمنين، ففادى بهم أسارى كانت له عند معاوية.
الرهاوي منسوب إلى الرهاء: قبيلة من العرب، وقد ضبطه عبد الغني ابن سعيد بفتح الراء: قبيلة مشهورة، وأما المدينة فبضم الراء.

.ذكر غارة أهل الشام على أهل الجزيرة:

وفيها سير معاوية عبد الرحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وفيها شبيب بن عامر جد الكرماني الذي كان بخراسان، وكان شبيب بنصيبين فكتب إلى كميل بن زياد، وهو بهيت، يعلمه خبرهم، فسار كميل إليه نجدة له في ستمائة فارس، فأدركوا عبد الرحمن ومعه معن بن يزيد السلمي، فقاتلهما كميل وهزمهما فغلب على عسكرهما وأكثر القتل في أهل الشام وأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح، وقتل من أصحاب كميل رجلان، وكتب إلى علي بالفتح فجزاه خيراً وأجابه جواباً حسناً ورضي عنه، وكان ساخطاً عليه لما تقدم ذكره.
وأقبل شبيب بن عامر من نصيبين فرأى كميلاً قد أوقع بالقوم فهنأه بالظفر واتبع الشاميين فلم يلحقهم فعبر الفرات وبث خيله فأغارت على أهل الشام حتى بلغ بعلبك، فوجه معاوية إليه حبيب بن مسلمة فلم يدركه، ورجع شبيب فأغار على نواحي الرقة فلم يدع للعثمانية بها ماشية إلا استاقها ولا خيلاً ولا سلاحاً إلا أخذه وعاد إلى نصيبين وكتب إلى علي، فكتب إليه علي ينهاه عن أخذ أموال الناس إلا الخيل والسلاح الذي يقاتلون به وقال: رحم الله شبيباً، لقد أبعد الغارة وعجل الانتصار.

.ذكر غارة الحارث بن نمر التنوخي:

ولما قدم يزيد بن شجرة على معاوية وجه الحارث بن نمر التنوخي إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان في طاعة علي، فأخذ من أهل دارا سبعة نفر من بني تغلب، وكان جماعة من بني تغلب قد فارقوا علياً إلى معاوية، فسألوه إطلاق أصحابهم فلم يفعل، فاعتزلوه أيضاً، وكتب معاوية إلى علي ليفاديه بمن اسر معقل بن قيس من أصحاب يزيد بن شجرة، فسيرهم علي إلى معاوية، وأطلق معاوية هؤلاء، وبعث علي رجلاً من خثعم يقال له عبد الرحمن إلى ناحية الموصل ليسكن الناس، فلقيه أولئك التغلبيون الذين اعتزلوا معاوية وعليهم قريع بن الحارث التغلبي، فتشاتموا ثم اقتتلوا فقتلوه، فأراد علي أن يوجه إليهم جيشاً، فكلمته ربيعة وقالوا: هم معتزلون لعدوك داخلون في طاعتك وإنما قتلوه خطأ. فأمسك عنهم.